الكل يعلم حجم الكارثة.. والأغرب من ذلك أن الجميع يدرك أسبابها وعوامل تضخمها.. الكل يدلو بدلوه ويقدم الحلول والأجوبة منذ فترة طويلة.. ورغم ذلك فهى طليقة تنهش فى لحم المجتمع وتتزايد أرقامها المعلنة كل فترة.. إنها البعبع المخيف للفتيان والفتيات "ال ع ن وس ة"..
فى آخر الإحصائيات قدروا عوانس مصر بحوالى 9 ملايين والدول العربية 5 ملايين.. ووجد بعض خبثاءنا فى تلك النسب ضالتهم لإظهار "فكاكتهم وعبقريتهم وقريحتهم المتوهجة".. وصلت بهم الجرأة للمناداة بتشجيع حلقات الزار وذبح نساء النمل الأسود تحت أقدام العوانس حتى تنفك العقدة وتنتهى الظاهرة.
ولكن للحق فند العديد من عقلائنا الخبثاء الأسباب الجديدة التى أشاعت الرعب والقلق من تفاقم ظاهرة العنوسة.. فقال البعض منهم إن الناحية الاجتماعية المنحدرة والمنحرفة والمتفاقمة تتربع فى أولويات الأسباب.. وأخذوا يكيلون لها أندر وأغرب الأوصاف واللعنات، لأنها السبب فى تغيير وانحدار مفاهيم اجتماعية عديدة أدت لتكريث تلك الظاهرة.. فتغير على سبيل المثال مفهوم الرجولة، فتبعته بالضرورة تغييرات فى مواصفات ومقومات عروس المستقبل.. فالشباب اليوم أدمن البطالة والتسكع وجلوس المقاهى، وترك "الحبل على الغارب" لمخيلته فى رسم وتلوين الفتاة، التى ينوى الارتباط بها وتنتشله من مشكلة مصاريف البيت.. فوضع هؤلاء الشباب بنود ومعايير ومقاييس صارمة لا يحيدوا عنها حتى لو ظلوا فترة طويلة من حملة لقب "عانس"، ارتبطت جميعها بقيمة المرتب الثابت الذى تتناوله من وظيفتها، وحبذا لو هناك أرث من والديها..
ولكن عدد من الخبثاء ممن يجبنون فى إظهار الرأى ويخافون وصلات الردح التى تتميز بها فتيات مصر والعالم العربى، رفض الرأى السابق وسارعوا إلى إرجاع تفاقم هذه الظاهرة للنواحى الاقتصادية، متناسين بأن نسبة الزواج فى المناطق الفقيرة والريف تماثل ثلاثة أضعاف نسبتها فى المناطق الغنية المصرية والعربية..
وهناك قلة ممن لا يهابون ولا ترعبهم اللعنات والدعاء عليهم، وجهوا الاتهامات بصورة أساسية لفتيات اليوم.. ممن وجدن فى كلمة "فتاة عصرية" بريقا يخطف الأبصار فى ظل ارتفاع نسبة الحاصلات على درجة الماجستير والدكتوراه، فعملن على إحياء دور الجدات ممن جاهدن فى الماضى القريب حتى حصلت المرأة على حقوقها الطبيعية، وتوقفوا بعد أن تيقنوا بأنهم نالوا كل ما كانوا يصبون إليه وتسمح به الطبيعة.. وغالت تلك الفتيات فى شروطهن "العلمية المعملية الفذة" عند اقتناص عريس المستقبل.. وهؤلاء ليس لهن مقومات غير ترديد ما حفظنه من أمهات الكتب وأفكار "سيمون دى بفوار ومقدمة ابن خلدون وشعر أبى العلاء المعرى"، بطريقة تفوق براعتهن فى تجهيز طبق بيض مقلى.
ورأى البعض بأن السبب الحقيقى هو ضياع "القدوة" أمام الفتيات، بعد أن أصبحت فى أيدى فتيات السينما، ممن يمتلكن الجمال والفتنة الاصطناعية، ورفعوها كأسلحة إغواء وإغراء.. وأصبح حلم الزواج مرتبط بوجود الخادمة والعربة الفارهة والزوج المطيع الذى تصفحه على خده الأيمن فيسارع لها بالأيسر. وفى النهاية لا يسعنا إلا الترحم على عصر الآباء والأمهات الذى كانوا يعانون من الفقر ولكن العاطفة والقيم تغنيهم..
(منقول من مقال أحمد خيرى بجريدة اليوم السابع)