لهذه الكلمة العظيمة مقتضيات عدة: فمقتضاها الإيماني: أن من فقد هذه الكلمة فهو يتخبط خبط عشواء، والذين أعرضوا عن ذكر الله في ظلمات لا نهاية لها، إن الذين لا يفهمون لا إله إلا الله يرون أن الحياة من أجل أن يقضوا أوطارهم في شهواتهم وملذاتهم، لا وألف لا، وكيف تكون حياة بدون لا إله إلا الله والله يقول: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً [المؤمنون:115] خلقتم من أجل لا إله إلا الله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116]، من فهم لا إله إلا الله يدرك أن كل ما في الكون لم يخلق إلا لأجل الله ولمرضاة الله عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27] نعم ذلك ظن الذين كفروا، يظنون أن في هذا الكون شيئاً خلق باطلاً، أو شيئاً وجد عبثاً، أو شيئاً قد وجد سدى، أما الذين يفهمون لا إله إلا الله يعلمون أن النفوس لم تخلق عبثاً، ولم تترك سدى، ولم يوجد من هذا شيء باطل: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:27-28] الذين يعلمون لا إله إلا الله يعلمون أن هذا معناها ومقتضاها. أما ذلك الضال المضل -وهو مثال لمن لم يفهموا معنى هذه الحقيقة- يوم أن قال:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري
ولماذا لست أدري؟ لست أدري
أولئك لم يفهموا لا إله إلا الله، ولم يعرفوها، ولم ينالوا شرف الانتساب إليها، فإلى أي درك يهبط هذا الإنسان إذا لم يعرف معنى وجوده، إلى أي هاوية تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق يوم أن يجهل لا إله إلا الله، إن الإيمان بالله وحده هو حق لله على عباده، في وقتٍ الله عز وجل غني عن عباده، يقول الله عز وجل وهو الغني عن العباد: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:56-57]. إننا ندعى إلى لا إله إلا الله ليس لحاجة ربنا إلينا، وليس من أجل أن يستكثر بنا ربنا من قلة، أو يستظهر بنا من قلة علم وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سـبأ:22] لا إله إلا هو وحده لا شريك له، والله لا يزيد في ملكه شيء أن يعبده الناس على قلب رجل واحد، أو أن يكونوا على أفجر قلب رجل واحد منهم كما في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) إذاً فنحن المحتاجون والله هو الغني عنا، ونحن الفقراء والله الغني، وإن نشكر فالله يرضى لنا، وإن نكفر فإن الله غني حميد: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [الإسراء:15]، وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:6]. إن الفساد الذي يسري في الأرض حين يهبط الإنسان عن الإيمان بما لا تدركه الحواس، فيفقد الإيمان بالله واليوم الآخر، ويفقد معنى لا إله إلا الله يعني ألواناً شتى لا تحصيها أقلام ولا مجلدات من الضلال والضياع، لأن النفوس إذا ضاعت وزلت وتاهت عن طريق لا إله إلا الله، فلا تسل عن هلكاتها، في أدنى أدنى وأصغر أصغر أمور حياتها، ومن زار الكفار أو عاش معهم فترة أو قرأ أحوالهم عرف إلى أي درجة يتخبط أولئك. أيها الأحبة: إن بعض المسلمين يقول: هؤلاء الكفار عندهم من المخترعات، وعندهم من زخرف الحياة، وعندهم من الملذات والشهوات، ما يظهرون به في غاية السعادة، مع أنهم لم يعرفوا لا إله إلا الله، فلماذا أنتم تكررونها وتزيدون وتعيدون فيها؟ نقول: أيها الأحبة! إن أولئك كما قال الله عنهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] والله عز وجل يبتلي عباده المؤمنين ويبتلي الكافرين: كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء:20] ليبتلي الإنسان هل يثبت وهل يبقى على يقينه وإيمانه؟ لأن أناساً لما رأوا سعادة وهمية في حياة الكفار، وابتسامات زائفة على وجوه الكافرين، وشيئاً من الرخاء في بعض حياتهم أو حياة أممهم، قال: هؤلاء عاشوا وبدون هذه الكلمات التي تدعون إليها وتكررونها، نقول: هذا من البلاء، وهذا من الفتنة، إذ لو تأملت أحوال بقية الكفار لوجدت فيهم من الضلال والخبال، والبؤس والشقاء ما الله به عليم، ولكن إن لله سنناً من أخذ بها نال شيئاً ولو حظاً من الدنيا، فبعضهم الذين أخذوا بشيء من سنن الدنيا نالوا حظاً في الدنيا مع شقاء في نفوسهم وأرواحهم، والآخرون من الكفار لم ينالوا حظاً لا من الدنيا ولا من السعادة أبداً، فيُبتلى المؤمنون بهذا. إن أخذنا بالعمل والجد، والصبر والمثابرة، والتعلم والكفاح والمنافسة؛ فإننا أيضاً ننافس هذه الأمم الغربية الكافرة، حتى لا يقول أحد: إن ديننا فقط هو ذكر وعبادة دون أن ننافس في تجارة وصناعة، وسياسة وإعلام واقتصاد وغير ذلك، إنها سنن لو أن أمماً بوذية ويهودية وغربية وشرقية في قضية من قضايا الأمور الدنيوية أخذت بأسباب الدنيا، بعوامل الإنتاج، بنظرية الإنتاج على الطريقة التي تنتج بها ما توده وما تحتاج إليه لأنتجت، وهذه من سنن الله أن من صبر على أمر من أمور الدنيا ناله، لكن المؤمن يصبر فيؤجر على صبره، ويظفر فيثاب على ظفره، ويثاب فيما قدم وعمل، وأما أولئك فليس لهم عند الله قليل ولا كثير من سعيهم، وإنما تعجل لهم ملذاتهم وما يحلو لهم حال دنياهم