الحمد لله رب العالمين، والصـلاة والسـلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعـد:
إنه من المؤسف حقا أن يعدل المسلمون أكثرهم اليوم عن التاريخ الإسلامي الهجري إلى تاريخ النصارى الميلادي الذي لا يمت إلى دينهم بصلة ولئن كان بعضهم شبهة من العذر حين استعمر بلادهم النصارى وأرغموهم على أن يتناسوا تاريخهم الإسلامي الهجري فليس لهم الآن أي عذر في البقاء على تاريخ النصارى الميلادي وقد أزال الله عنهم كابوس المستعمرين وظلمهم وغشمهم.
قال الله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ...). (التوبة:36)
اليوم استقبلنا عاما إسلاميا هجريا جديدا، ابتداء عقد سنواته من أجل مناسبة في الإسلام ألا وهي هجرة النبي التي ابتدأ بها تكوين الأمة الإسلامية في بلد إسلامي يحكمه المسلمون.
ولم يكن التاريخ السنوي معمولا به في أول الإسلام حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب ، ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته (سنة ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة) كتب إليه أبو موسى الأشعري : "إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ".
فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم ، فيقال إن بعضهم قال: "أرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها كلما هلك ملك أرخوا بولاية من بعده"، فكره الصاحبة ذلك، فقال بعضهم: "أرخوا بتاريخ الروم" فكرهوا ذلك أيضا، فقال بعضهم: "أرخوا من مولد النبي "؛ وقال آخرون: "من مبعثه" وقال آخرون: "من مهاجره"، فقال عمر: "الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها فأرخوا من الهجرة " واتفقوا على ذلك.
ثم تشاوروا، من أي شهر يبدئون السنة؟ فقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي مهاجرا إلى المدينة وقال بعضهم: من رمضان لأنه الشهر الذي نزل فيه القرآن واتفق رأي عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام ويلي ذي الحجة الذي فيه أداء الناس حجتهم الذي به تمام أركان الإسلام لأن الحج آخر ما فرض من الأركان الخمسة ثم أنه يلي الشهر الذي بايع فيه النبي الأنصار على الهجرة وتلك المبايعة من مقدمات الهجرة فكان أولى الشهور بالأولية شهر المحرم..
أما بالنسبة لتسميـة الشهـور، فالمحرم سمى المحرم لأن العرب كان يحرمون القتال فيه، وصفر سمي صفراً لأن العرب كان يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفر المتاع ، وشهر ربيع الأول لأن العرب كانوا يرتبعون فيه أي لرعيهم فيه العشب فسمى ربيعاً، وجمادى لجمود الماء فيه، ورجب سمي رجباً لترجيبهم الرماح من الأسنة لأنها تنزع منها فلا يقاتلوا، وشعبان لأنه شعب بين رمضان ورجب، ورمضان لرموض الحر وشدة وقع الشمس فيه، وشوال لشولان النوق فيه بأذنابها إذا حملت، وذو القعدة سمي ذا القعدة لقعودهم في رحالهم عن الغزو لا يطلبون كلأًً ولا ميرة، وذو الحجة سمي ذا الحجة لأنهم يحجون فيه.
قال تعالى: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) فمن هذه الأشهر التي ذكرها الله في كتابه أربعة حُـرم، ثلاثة منها متوالية وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والرابع منها مفرد وهو رجب بين جمادى وشعبان. قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: ((أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)).
وسميت هذه الأشهر الأربعةُ حرماً لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها، روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : اختص الله تعالى أربعة أشهر جعلهن حرماً وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيها أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم، وخصّ الله تعالى الأربعة الأشهر الحُرُم بالذكر, ونهى عن الظلم فيها بقوله سبحانه (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أنفسكم) تشريفاً لها، وإن كان الظلم منهيّاً عنه في كل الزمان. والمقصود بقوله تعالى
فلا تظلموا فيهن أنفسكم) أن لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال, ولا تظلموا فيهنّ أنفسكم بارتكاب الذنوب والآثام.
شهور السنة الهجرية هي الشهور الهلالية التي هي عند الله تعالى في كتابه كما قال تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) الشهور التي جعلها الله تعالى مواقيت للعالم كلهم قال الله عز وجل: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) مواقيت للناس كلهم بدون تخصيص لا فرق بين عرب وعجم ذلك لأنها علامات محسوسة ظاهرة لكل أحد يعرف بها دخول الشهر وخروجه فمتى رؤي الهلال من أول الليل دخل الشهر الجديد وخرج الشهر السابق.
أما الشهور الإفرنجية فهي شهور وهمية غير مبنية على مشروع ولا معقول ولا محسوس بل هي شهور اصطلاحية مختلفة بعضهم واحد وثلاثون يوما وبعضهم ثمانية وعشرين يوما وبعضهم بين ذلك لا يعلم لهذا الاختلاف سبب حقيقي معقول أو محسوس ولهذا طرحت مشروعات في الآونة الأخيرة لتغيير هذه الأشهر على وجه منضبط لكنها عورضت من قبل الأحبار والرهبان فتأمل أيها المسلم كيف يعارض رجال دين اليهود والنصارى في تغيير أشهر وهمية مختلفة إلى اصطلاح أضبط لأنهم يعلمون ما لذلك من خطر ورجال دين الإسلام ساكتون بل مقرون لتغيير التوقيت بالشهور الإسلامية بل العالمية التي جعلها الله لعباده حيث عدل عنها المسلمون لتغيير التوقيت بالشهور الإفرنجية. وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله فقيل له: إن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف فكـَرِه ذلك أشد الكراهية.
ومن أهمية اتخاذ كل مسلم السنة الهجرية تاريخا له هو تعلق العبادات من صيام (كصيام رمضان وست من شوال ويوم عرفة وعاشوراء) وحج بيت الله الحرام وغيرها من العبادات بالشهور والسنين التي تعرفها العرب, دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقِبط، فلا يليق بالمسلمين أن يقدموا الشهور العجمية والرومية والقبطية على الشهور العربية. قال تعالى (يَسْـئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ)[البقرة:189].
وعلينا أن نشكر الله على ما يسره لنا من هذا الحساب البسيط الميسر .
إن على الأمة الإسلامية أن تجعل لنفسها وجودا وكيانا مستقلـّين مستمدَّين من روح الدين الإسلامي وأن تكون متميزة عن غيرها وفي كل ما ينبغي أن تميز به من الأخلاق والآداب والمعاملات لتبقى أمة بارزة مرموقة لا تابعة لغيرها هاوية في تقليد من سواها تقليدا أعمى لا يجر إليها نفعا ولا يدفع عنها ضررا، وإنما يظهرها بمظهر الضعف والتبعية وينسيها ما كان عليه أسلافها ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، فالتاريخ اليومي يبدأ من غروب الشمس، والشهري يبدأ من الهلال والسنوي يبدأ من الهجرة. هذا ما جرى عليه المسلمون وعملوا به واعتبره الفقهاء في كتبهم في حلول آجال الديون وغيرها.
عباد الله إن كل عام يجد يعد المرء نفسه بالعزيمة الصادقة والجد ولكن تمضي عليه الأيام وتنطوي الساعات وحاله لم تتغير إلى أصلح فيبوء بالخيبة والخسران ثم لا يفلح ولا ينجح فاغتنموا الأوقات عباد الله بطاعة الله وكونوا كل عام أصلح من العام الذي قبله فإن كل عام يمر بكم يقربكم من القبور عاما ويبعدكم عن القصور عاما يقربكم من الانفراد بأعمالكم ويبعدكم من التمتع بأهليكم وأولادكم وأموالكم.
عباد الله، والله ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين ولا نال العز والكرامة والرفعة إلا من خضع لرب العالمين ولا دام الأمن والطمأنينة والرخاء إلا باتباع منهج المرسلين، فاعتصموا بطاعة الله عن عقوبتكم.
و حاسبوا أنفسكم عن أيامها، وأعلموا أن ما ذهب منها لن يستخلف.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا) [رواه الترمذي ح (2459)].
وقال الحسن البصري –رحمه الله-: "المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة".
(يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
=============
مأخوذة من عدة خطب \ بتصرف.